تأملات في المشهد الثقافي المغربي الواقع والآفاق-عبده حقي
طنجة/الأدبية، الجريدة الثقافية لكل العرب. ملف الصحافة 02/2004. الإيداع القانوني 0024/2004. الترقيم الدولي 8179-1114 

 
مقالات

تأملات في المشهد الثقافي المغربي
الواقع والآفاق

يستمد الواقع الثقافي المغربي راهنيته من تراكمات دينامية ثقافية قد شابتها الكثير من الإختلالات الناتجة أساسا عن نوع من التعاطي مع الشأن الثقافي باعتباره حقلا يقوم على الكثير من التعارضات والقيم والأفكار والتصورات التي اكتسبت البعض من (مشروعيتها) ــ وإن كانت تفتقد إلى إستراتيجية واضحة ــ من توترات الحرب الباردة ورياح عالمية وإقليمية متقلبة فضلا عن دعم خارجي ، مادي ورمزي بأطياف متعددة يروم احتضان ثقافة الهامش التي ارتكنت إلى مرجعياتها وقواعدها القائمة على مشروع الفكر البديل في تعارضه مع ما هو كائن ومن جهة ثانية بين ثقافة مؤسساتية تحكمها العديد من الضوابط والشروط الموضوعية والمشروعية التاريخية.

ومن خلال هذه الرؤية الأولية الشمولية لثنائية الثقافة بالمغرب والوطن العربي على العموم، يتبدى اختلال العلاقة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي كعلاقة لم تسلم من جدليتها الخاصة ومصيرها البعيد عن الاستقلالية ..

إنها علاقة كانت وما تزال موسومة بعضويتها للسياسي (الحزبي والمؤسساتي)، إذ بقي جسر هذه العلاقة ومنذ مغرب الاستقلال إلى (مغرب الانتقال الديمقراطي) يمضي في اتجاه واحد هو اتجاه القاعدة العامة: هيمنة السياسي على الثقافي تلك الهيمنة التي تتغيى تكريس واقع سوسيوثقافي تنصهر فيه كل مكونات الفسيفساء وكل العلامات التي تنتج المشهد برمته.

كانت وما تزال ملامح الثقافة في مستوياتها الإيديولوجية والفكرية والأدبية على الخصوص مفتقدة لتصورها الخاص ولونها الذي يبصمها بالخصوصية والتفرد، فما ساد الثقافة المغربية منذ الاستقلال هي أنها ثقافة عملاتية يتغير وجهيها بحسب تغير الواقع وبحسب رغبتها في إنتاج المتلقي المطلوب؛ كما لو أن هذا الوطن مغربين. مغرب يسير بثقافة براغماتية تحاول أن تنخرط في حركية الاستثمار المالي والدينامية الاقتصادية باستدرارها للموارد الأساسية وتقعيدها على سياسة وبرامج حكومية من دون أن تحظى هذه الثقافة الرسمية كمنتوج رمزي في سياسة الدولة بأولوية البحث الأكاديمي الأنتربولوجي إلا فيما ندر من أبحاث ودراسات أنجزها بعض الدكاترة والأساتذة الباحثين أو بعض المهتمين بمبادرتهم الخاصة مثلا: (موسيقى العيطة مع أبحاث حسن نجمي والراحل محمد بوحميد وموسيقى أحواش مع الباحث عمر أمرير نموذجا...) ومن دون اعتبار لبعض المظاهر الثقافية الحداثية باعتبارها ثقافة ذات هوية مغربية محضة ومنجزة على جغرافية مغربية...

أما وجه العملة الآخر والأكثر التباسا وغموضا وهشاشة وافتقارا لإطار خاص ومعالم واضحة هو ثقافة ما
يسمى ب(الهامش)، الثقافة المشاغبة أو المحايثة لدينامية الاقتصاد الثقافي من دون أن تنخرط أو تؤثر وتتأثر بآلياته. لقد ظلت هذه الثقافة وعلى مدى أربعة عقود أو أكثر تقتات على رأسمال رمزي مغامر Capital culturel à risque إذ أن المغامرة في دورتها الإنتاجية غير محمودة العواقب وهي تؤول في الغالب وبالتجربة إلى الخسران والإحباط وغالبا ما يتم تعليق أخطائها وانتكاساتها وخساراتها إلى سياسة الدولة في المجال الثقافي ونخص على سبيل المثال لا الحصر معضلة النشر والتوزيع وغياب معارض جهوية ضخمة للكتاب على غرار المعرض الدولي بالدار البيضاء ..الخ.
فهل تمكنت ثقافة (البديل) أو (ثقافة الهامش) هاته من تحديد شخصيتها ومعالمها داخل المشهد الثقافي المغربي العام وانخراطها في شموليته؟

مما لاشك فيه أن آفة الثقافة المغربية والثقافة العربية عموما كما سبق وأسلفنا هو ولاؤها الأعمى للفاعل السياسي وانخراطها تحت سقف رمزيته بما هي ثقافة قد كانت حاملة لمشروعها التحرري والتقدمي (البديل) وكونها من جهة ثانية ثقافة ذات قوة رمزية غير أن معضلتها الكبرى أنها تتأثر ولا تؤثر في المشهد السياسي بما أتنتجه في العقود الماضية من تراكم أدبي ورمزي وفكري وإيديولوجي فاقد لآليات التواصل الحقيقية مع القاعدة الواسعة من المتلقين، ليس مع النخبة المتعلمة فحسب بل حتى مع النخبة الجامعية والأكاديمية، ما جعلها إلى حدود أوائل التسعينات ثقافة تجتر نفس القيم والخطابات الإيديولوجية القديمة ونفس الجهاز المفاهيمي والأبجدياتي بل وتحافظ على كاريزمية بعض رموزها المؤسسين لها وتعمل بوعي تام على تلميع أصنامهم كلما سنحت الفــــرص لذلك وتقتفي آثارهم الفكرية قراءة ونقدا ودعاية.

والسؤال الملح والمحوري هو: ماذا تغير في الواقع الثقافي المغربي مع (الانتقال الديمقراطي)؟ وهل حققت مقولة التغيير مشروعها الديمقراطي على كل الأصعدة والمتمثل في التوزيع العادل لوسائل الإنتاج الثقافي وإلى أي حد تم تحقيق البرنامج السياسي العام في شقه الثقافي؟

لقد راهن المثقف في المغرب كما المواطن العادي على أحلام التغيير ورياحه التي هبت مع تنصيب حكومة (الانتقال الديمقراطي) والتي لا ننكر وبكل موضوعية وصدق أنها دشنت العديد من الأوراش الطليعية والرائدة على المستوى العربي والإفريقي خصوصا فيما تعلق بمصالحة المغاربة مع ماضيهم السياسي والاجتماعي وجبر الضرر النفسي والوجداني إلا جبر الضرر الرمزي والمادي مع ماضي بعض النخب الثقافية!! لماذا وكيف؟

لقد استعر الرهان والأمل عشية تعيين وزير الثقافة السابق وتوسمت النخب المثقفة بعد هذا التعيين كل آمالها في الإنصاف والمصالحة خصوصا وأن الوزير السابق (ولد دار الثقافة) فهو السياسي والصحافي والشاعر والقاص ورئيس إتحاد كتاب المغرب وعضو إتحاد كتاب العرب ومهندس فكرة مؤتمر(إ. ك. ع) بالرباط فقد خبر مكامن الداء في الواقع الثقافي المغربي إبداعا وكتابة ومسؤولية ومعاناة من مخاض الإبداع إلى طواحين النشر إلى ماراطون التوزيع إلى بورصة التسويق وأخيرا وهذا بيت القصيد إلى صندوق الدعم الثقافي ...الخ.

ولا شك أن الرهان ومنذ صعود حكومة التغيير أواخر القرن الماضي، كان بالأساس هو إعادة الاعتبار للمبدع والإبداع، وللمثقف والثقافة المغربية وتبديد غيوم سنوات شدّ الحبل بين الثقافة والسياسة، والعمل على خلق ربيع العلاقة بين السلطة والثقافة وطي صفحة الماضي إذ كان المثقف يحمل دائما قناع (الشيطان) الذي أبى واستكبر ثم إعادة التفكير في إطار إستراتيجية التغيير (بنظام التقطيرgoute à goute) والمراهنة على الفعل الثقافي باعتباره رقما أساسيا في معادلة الكيان المغربي وعضوا ضروريا في دينامية التنمية البشرية وأساسا كائنا مدججا بكل الأدوات الفنية والفكرية لتحصين الهوية الوطنية المغربية بكل رموزها وقيمها العليا من حرب الإبادة الباردة (العولمة)... ولا ننكر أن القليل من تلك الأحلام قد تحقق ولعل أهمها الرفع من ميزانية وزارة الثقافة ضمن الميزانية العامة للحكومة والكثير من الأحلام مع الأسف لم يتم بلورتها وترجمتها على أرض الواقع انسجاما مع آمال وانتظارات الفئة العريضة من الفاعلين في الحقل الثقافي... لقد انحصر تحقيق التصور الثقافي الجديد في مشاريع محدودة ومعدودة، وبقدر ما شرعت أبواب (التناوب السياسي) بقدر ما تكرس الغبن والحيف في حق العديد من المثقفين...

لقد انطلقت أولى هذه المشاريع بإطلاق سلسلة (الأعمال الكاملة) و(الكتاب الأول) و(دعم الكتاب) واستبشر الكثير من الكتاب بهذه الآليات التقدمية الجريئة خيرا لكن ما ساد غداة إطلاق هذه المشاريع هو عمليات متلبسة بالشبهة وغياب الرؤية الواضحة والشفافية فيما يخص تصريفة الدعم إذ أن بعض مسلكيات كانت ومازالت لا تمت إلى العدالة الثقافية والقيم الفكرية الرفيعة بصلة فقد اعتورت ورانت على حق الدعم وحق الجميع من المال العام التباسات منها ما ظهر ومنها ما بطن وهكذا باتت كتابات الكثير من الأقلام (المغمورة) على رفوف الوزارة تكابد مرارة الحيف وتجتر نفس آلام سنوات القهر لكن بلون آخر هو لون التغيير!!؛ التغيير من أجل مصالحة بعض الذوات الثقافية مع ماضيها وليس مع الواقع الثقافي العام؛ أما بخصوص مشروع الأعمال الكاملة فقد تم إصدار الأعمال الكاملة لكل من الأديب عبد الكريم غلاب ومحمد زفزاف وإدريس الخوري ومحمد شكري وعبد الكريم الطبال وربما هناك آخرون فيما ظل التكتم مهيمنا حول المعايير العلمية والفكرية والمنطقية التي تم اعتمادها في هذا المشروع إذ أن العديد من الأدباء والمفكرين القانعين من هم أيضا أجدى وأحق من الانتظار في الطابور ويكفي أن نذكر من بينهم المسرحي الراحل محمد تيمد والشاعر محمد السرغيني والروائي أحمد المديني (عن رابطة أدباء المغرب) والشاعر أحمد بلحاج آيت وارهام والقاص الروائي أحمد عبد لسلام البقالي والكاتبة الرائدة خناثة بنونة ...الخ.

أما ما تعلق بتفعيل تمتيع إتحاد كتاب المغرب بصفة جمعية ذات النفع العام فإن هذا المطلب الذي تقدم به الإتحاد أواسط التسعينات قبل استوزار المثقف السابق فإنه ظل من سابع المستحيلات التي لا نعلم بمصيرها وإلى أي مصير آل بها المآل. لكن وبالرغم من العديد من العثرات والمنزلقات التي شابت الحقل الثقافي على عهد زمن التغيير فإنه على كل حال قد تم ترسيخ بعض التقاليد والأجندات الوازنة كمواسم سنوية وإبداعية مثل مهرجان المسرح الوطني بمكناس ومهرجان وليلي بجبل زرهون الذي لا ننكر أنه بالرغم من حداثة سنه فقد صار ينافس بعض المهرجانات العربية بالإضافة طبعا إلى مهرجان أحيدوس بعين لوح هذا في حدود ما نعلم إذ أنه يستحيل علينا في المشهد الثقافي المغربي الراهن معرفة أين تبدأ وأين تنتهي سلطة وأجندات وزارة الثقافة على مستوى الإنجاز أو الرعاية المباشرة والدعم المعنوي والمادي في ربوع المملكة والسؤال الأساسي الذي يفرض نفسه بإلحاح وبقوة بعد تعيين الوزيرة ثريا جبران قريتيف هو إلى أي حد قد تستطيع السيدة الوزيرة أن تطهر الحقل الثقافي من الكثير من المسلكيات المشينة التي شابته قبل وبعد تعيين حكومة التغيير من قبيل المحسوبية والزمالة والحزبية وإلى أي حد ستمتلك السيدة الوزيرة القوة الإقتراحية والتصور النفاذ والإستراتيجية الواضحة من أجل الرفع من قيمة الدعم الخاص بالكتاب والتفكير أيضا في آليات جديدة للرفع من عدد العناوين والإصدارات وتفعيل شراكات حقيقية مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر ووزارة السياحة والصناعة التقليدية ووزارة الصناعة والتجارة ومختلف القطاعات المرتبطة بالشأن والمنتوج الثقافي .

وأهم من كل هذا على السيدة الوزيرة أن تغمر العديد من مثقفي الهامش المغبونين، وذلك بالإنصات وعقد لقاءات للاستماع وأجمل من ذلك فتح رقم خط هاتفي أخضر للإجابة على كل الأسئلة العالقة حول إنتاج (الكتاب) فيما يتعلق بمشاكل الدعم أو النشر أو التوزيع والاهتمام أيضا بالثقافة الرقمية حيث أن الكثير من المثقفين الورقيين ينسون أن واجهة أخرى للثقافة المغربية لا محالة أن مراكبها تبحر على العديد من المواقع الإلكترونية العربية والدولية باتجاه شواطئ الثقافة المغربية وأخيرا التفكير في عقد المؤتمر الوطني الأول بين أطر وزارة الثقافة ومختلف الإطارات والشركاء والفاعلين في المجال الثقافي من أجل إصدار كتاب أبيض .
وعلى كل حال كل عام والثقافة المغربية بألف خير...



 
  عبده حقي (2008-01-09)
Partager

تعليقات:
أضف تعليقك :
*الإسم :
*البلد :
البريد الإلكتروني :
*تعليق
:
 
 
الخانات * إجبارية
 
   
   
مواضيع ذات صلة

تأملات في المشهد الثقافي المغربي 
الواقع والآفاق-عبده حقي

متابعات  |   ناصية القول  |   مقالات  |   سينما  |   تشكيل  |   مسرح  |   موسيقى  |   كاريكاتير  |   قصة/نصوص  |   شعر 
  زجل  |   إصدارات  |   إتصل بنا   |   PDF   |   الفهرس

2009 © جميع الحقوق محفوظة - طنجة الأدبية
Conception : Linam Solution Partenaire : chafona, sahafat-alyawm, cinephilia